تسلط التطورات الأخيرة في القدس الشرقية الضوء على البيئة القسرية التي تؤثر على العديد من الفلسطينيين المقيمين في المدينة، حيث تهدد أربعة مخططات استيطانية طُرحت مؤخرًا في حي الشيخ جراح بإخلاء ما يزيد على 70 مواطنًا فلسطينيًا. كما يتعرض ما لا يقل عن 260 فلسطينياً يقيمون في 24 بناية سكنية في هذه المنطقة للتهديد بإخلائهم منها بسبب دعاوى رفعتها ضدهم منظمات استيطانية وحارس الأملاك العام و/أو أفراد إسرائيليين.[8] واقترب عدد المنازل والمباني الأخرى التي جرى هدمها – حيث يشكل الهدم وسيلة ضغط رئيسية أخرى يرزح الفلسطينيون في القدس الشرقية تحتها – من عددها في العام 2016، حيث سُجل فيه أعلى عدد من عمليات الهدم منذ العام 2000. وأبدى رئيس الوزراء الإسرائيلي، في شهر تموز/يوليو، دعمه لخطة ترمي إلى ضم عدد من مستوطنات الضفة الغربية إلى بلدية القدس وفصل التجمعات الفلسطينية الواقعة خارج الجدار عن البلدية إداريًا، مما يغير التركيبة الديمغرافي للمدينة بصورة جذرية.[9]
وينجم عن التهجير حاجة إنسانية، سواء نتيجة الهدم أو الإخلاء. فهو يحرم الناس من منازلهم، ويقوض سبل عيشهم ووصولهم إلى الخدمات، وغالباً ما يترك آثارًا نفسية واجتماعية وخيمة، ولا سيما لدى الأطفال.
يستهدف المستوطنون الإسرائيليون المناطق السكانية الفلسطينية المكتظة بالسكان في القدس الشرقية، ولا سيما في الحي الإسلامي وحارة النصارى في البلدة القديمة وسلوان والشيخ جراح والطور (جبل الزيتون) ووادي الجوز وراس العامود وجبل المكبر. وفي هذه الآونة، يقيم أكثر من 3,000 مستوطن إسرائيلي في هذه المناطق، حيث يسكنون في منازل صودرت بموجب قانون أملاك الغائبين على أساس ملكيتها السابقة لليهود، أو في مبانٍ اشتُريت من ملّاكها الفلسطينيين أو في مساكن شُيدت خصيصًا لهذه الغاية بتمويل من منظمات استيطانية.[10] ومن جملة الآثار التي يفرزها هذا الوضع على المناطق الفلسطينية المعنية فرض قيود على المساحات العامة والتوسع السكني وحرية التنقل، ناهيك عن زيادة المشاحنات والعنف. وفي أسوأ الحالات – في البلدة القديمة وسلوان والشيخ جراح – أفضت مصادرة العقارات على يد المستوطنين في بالفلسطينيين إلى فقدان أملاكهم التي كانوا يقيمون فيها منذ فترات طويلة وإخلائهم منها.
ويُعَد حي الشيخ جراح السكني أحد الأهداف الرئيسية للنشاطات الاستيطانية بسبب موقعه الإستراتيجي القريب من خط الهدنة لعام 1949 (الخط الأخضر) والبلدة القديمة. ويتخذ عدد من المؤسسات الحكومية الإسرائيلية من هذه المنطقة مقرًا لها، بما فيها مقرات رئيسية للشرطة وحرس الحدود ووزارة العدل ومبنى التأمين الوطني الذي ما يزال قيد الإنشاء، وكانت السلطات الإسرائيلية قد صادرت مبنى فندق "شيبرد" في العام 1967، والعمل جارٍ في هذه الآونة على إنجاز المراحل النهائية من مستوطنة جديدة في موقع هذا الفندق. كما شُيد مبنى مكاتب على قطعة أرض أخرى في الشيخ جراح لصالح جمعية "أمانا"، وهي منظمة استيطانية (انظر الخريطة).[11]
وأخلت السلطات الإسرائيلية أكثر من 50 فلسطينيًا، منهم 20 طفلًا، في أواخر العامين 2008 و2009 قسرًا من منازلهم في منطقة كرم الجاعوني في الشيخ جراح،[12] وذلك بحجة أن هذه العقارات كانت تعود لأفراد أو جمعيات يهودية قبل العام 1948. ويقر قانون إسرائيلي صادر في العام 1970 بادعاءات من هذا القبيل، على الرغم من أن اليهود الذين فقدوا عقاراتهم خلال العام 1948 حصلوا على تعويضات ومساكن بديلة في أحياء كان الفلسطينيون يقطنونها في السابق. ولا يجيز هذا القانون للفلسطينيين الذين كانوا يملكون أراضٍ أو عقارات في بعض المناطق قبل العام 1948، والتي باتت تشكل جزءًا من دولة إسرائيل وأُعلن أنهم "غائبين"، استعادة أملاكهم السابقة.
وسُلمت منازل الفلسطينيين، فور إخلائهم منها، لمجموعات استيطانية تقيم أصلاً في عدة مبانٍ أخرى في المنطقة. وحتى يوم 31 آب/أغسطس، كانت منظمات استيطانية إسرائيلية تقيم دعاوى إخلاء بحق 23 أسرة، تضم نحو 100 فرد (%30 منهم أطفال). وتستند دعاوى الإخلاء في جانب كبير منها، والتي يُشار فيها إلى الأسر بصفة الطرف المدعى عليه، إلى التخلف عن تسديد الإيجارات المستحقة، وبناء إضافات دون الحصول على تراخيص البناء اللازمة والادعاءات التي تقول إن تلك الأسر مسؤولة عن إثارة الاضطرابات وسلوك مسلك يهدد جيرانهم. ووفقاً للمخططات التي قُدمت لبلدية القدس، ينوي المستوطنون هدم جميع العقارات في المنطقة لتمهيد الطريق لبناء مستوطنة إسرائيلية جديدة في نهاية المطاف.
كما تستهدف المنظمات الاستيطانية منطقة كبانية أم هارون غرب حي الشيخ جراح. وما يزال خلاف على ملكية الأرض في هذه المنطقة قائمًا بين السكان الفلسطينيين المقيمين فيها وحارس الأملاك العام الإسرائيلي[14] والذي يعمل بالنيابة عن أفراد إسرائيليين يدعون أنهم كانوا يملكون الأرض المذكورة قبل العام، 1948، وغيرهم من الملّاك اليهود. وتعد غالبية الفلسطينيين المقيمين في هذه المنطقة من اللاجئين، الذين يعيشون بعمومهم في ظروف متردية، حيث تسكن أكثر من أسرة واحدة في المنزل الواحد. واختُتمت معركة قانونية مطولة في شهر أيلول/سبتمبر 2010، بعدما أصدرت المحكمة العليا الإسرائيلية حكمًا لصالح حارس الأملاك العام وأفراد يهود آخرين. وبالتزامن مع ذلك، رُفعت دعاوى إخلاء منفردة ضد 35 أسرة في هذه المنطقة، التي يبلغ تعداد أفرادها 140 شخصًا، أكثر من ثلثهم من الأطفال.
في شهر تموز/يوليو 2017، ناقشت لجنة التخطيط الإقليمية في القدس مخططات لبناء وحدات استيطانية جديدة، بما فيها أربعة مخططات تخص حي كبانية أم هارون. وينطوي اثنان من هذه المخططات (واللذان يحملان الرقمين 14029 و14151، وأُعِدا لإنشاء مبنيين أحدهما من ثلاثة طوابق والآخر من خمسة طوابق) على هدم مبنيين سكنيين، مما يضع 17 أسرة فلسطينية تضم 74 فردًا تحت خطر التهجير. كما تشمل المخططات المذكورة مخططات لتشييد مبنى مكون من تسعة طوابق ليضم حرم مدرسة "أور شيميش" الدينية (والذي يُعرف أيضًا بحرم "غلاسمان") ومبنى مكاتب آخر يتألف من ستة طوابق. وعلى الرغم من أن هذه المخططات تستهدف قطع أراضٍ خالية ولا تنطوي على إخلاء أحد، فهي تغير الطبيعة الديمغرافية لحي الشيخ جراح وتشكل حزامًا متصلًا من الوحدات الاستيطانية والمباني الحكومية الإسرائيلية في الحي بأسره.
كانت عائلة شماسنة تقيم في منزلها في كبانية أم هارون منذ العام 1964. وقد استهدفتها إجراءات الإخلاء التي أقامها حارس الأملاك العام وأصحاب الملك الإسرائيليين. وأصبحت الأسرة المكونة من ثمانية أفراد، بمن فيهم طفل وأيوب شماسنة الذي يبلغ من العمر 84 عامًا وزوجته البالغة من العمر 78 عامًا، تواجه خطرًا محدقًا بتهجيرها القسري من منزلها. وكانت الأسرة تسدد إيجارًا سنويًا لحارس الأملاك العام على مدى الفترة الممتدة بين العامين 1972 و2009، ولكن الأخير رفض تجديد عقد الإيجار بناءً على تعليمات من ورثة صاحب العقار اليهودي. وعلى الرغم من أن أحكام قانون حماية المستأجرين لسنة 1972 تسري على بعض الأسر الفلسطينية المقيمة في كبانية أم هارون، فقد أصدرت المحكمة العليا الإسرائيلية حكمًا، قضت فيه أن هذا القانون لا يسري على عائلة شماسنة وأنه يحق لأصحاب العقار إخلاءهم.
واستلمت الأسرة أمر إخلاء مؤخراً من مكتب التنفيذ التابع لسلطة التنفيذ والجباية الإسرائيلية. وينص هذا الأمر على أنه يجب على عائلة شماسنة إخلاء منزلها بحلول يوم 9 آب/أغسطس، وإلا فستواجه الإخلاء القسري منه. وطلب محامي العائلة أمرًا تقييديًا مؤقتًا في يوم 14 آب/أغسطس لغايات تأجيل هذا الإخلاء.
وفي يوم 17 آب/أغسطس 2017، طلب محامي عائلة شماسنة في جلسة استماع عُقدت في محكمة الصلح بالقدس إصدار أمر قضائي بتأجيل الإخلاء على أساس إجراءات تسجيل الأراضي التي تسري على منزل عائلة شماسنة. كما تضمن أمر الإخلاء أرقام قطع تختلف عن تلك الواردة في قرار المحكمة الصادر في العام 2013، ولكن محامي المستوطنين ادعى بأن الرقمين المعنيين يشيران لنفس المبنى، وبالتالي سمحت له المحكمة بتقديم الأدلة لهذه الغاية. ورفض القاضي في الجلسة التي أقيمت لاحقًا، في يوم 21 آب/أغسطس، طلب محامي عائلة شماسنة بتأجيل الإخلاء مؤقتاً. ويسعى محامي العائلة إلى طلب الإذن لاستئناف قرار محكمة الصلح. ومع ذلك، أُخليت الأسرة من منزلها في يوم 5 أيلول/سبتمبر، حيث سُلم للمستوطنين الإسرائيليين.
هدمت السلطات الإسرائيلية، في الفترة الممتدة بين شهريّ كانون الثاني/يناير وآب/أغسطس، 109 مبانٍ في القدس الشرقية بحجة افتقارها إلى تراخيص البناء، التي يُعد الحصول عليها شبه مستحيل. وقد أفضى هذا الأمر إلى تهجير 179 شخصًا، منهم 107 أطفال، وتضرر 471 شخصًا آخرين بصور مختلفة. وكانت التجمعات السكانية في جبل المكبر وبيت حنينا والعيسوية وسلون الأكثر تضررًا، حيث سجل ما نسبته 75% من عمليات الهدم الموثقة هذا العام و70% من مجموع المباني المهدمة في هذه المناطق.
ونُفِّذ ثلث عمليات الهدم في القدس الشرقية (109 من أصل 321 عملية هدم). وكان ثلث المهجرين من الضفة الغربية منذ بداية العام 2017 من القدس (179 من أصل 499 مهجرًا). وكان ما يقرب من 25% من المباني التي هدمت في القدس الشرقية خلال العام 2017 مأهولة. وفي المقابل، شكلت المنشآت الزراعية والتجارية نحو 39% من مجموع عمليات الهدم (انظر الرسم البياني أدناه). وشهد متوسط عدد الأشخاص المهجرين خلال العام 2017 بفعل أعمال الهدم في القدس الشرقية ارتفاعًا طفيفًا مقارنة بالمتوسط الشهري في العام 2016 (22.3 مقابل 21.2 مهجر). وخُصص ما نسبته 35% من الأراضي المصادرة في القدس الشرقية لمنفعة المستوطنات الإسرائيلية. ولا تزيد المساحة المخصصة لتشييد المباني الفلسطينية في القدس الشرقية عن 13%، وجانب كبير من هذه المساحة مأهول أصلًا بالمباني. ويفتقر ثلث منازل الفلسطينيين في القدس الشرقية على الأقل لتراخيص البناء الإسرائيلية التي يصعب الحصول عليها، مما يهدد أكثر من 100,000 فلسطيني يقيم فيها بخطر التهجير.
يواجه عدد ليس بالقليل من الفلسطينيين في جميع أنحاء الضفة الغربية خطر التهجير و/أو الترحيل القسري بسبب البيئة القسرية التي تفرزها السياسات والممارسات الإسرائيلية، والتي تعنى بالضغط على السكان ودفعهم إلى مغادرة تجمعاتهم. وتشمل هذه الممارسات هدم المنازل والمدارس والمنشآت التجارية أو التهديد بهدمها، والخطط التي ترمي إلى نقل التجمعات السكانية إلى بلدات حضرية، وفرض القيود على الوصول إلى الموارد الطبيعية، والحرمان من البنية التحتية الأساسية اللازمة لتقديم الخدمات وغياب الإقامة المضمونة. وغالباً ما تنفّذ هذه الممارسات بالتزامن مع بناء المستوطنات الإسرائيلية وتوسيعها. وتُعد المجتمعات البدوية والرعوية في المنطقة (ج)، والتي يقدَّر عدد سكانها بـ30,000 نسمة، والفلسطينيون المقيمون في القدس الشرقية الأكثر عرضةً لخطر الترحيل القسري. كما يُعد نظام التخطيط المقيد والتمييزي أحد المحاور الرئيسية التي تشكل هذه البيئة القسرية، حيث يجعل هذا النظام حصول الفلسطينيين على تراخيص البناء تشترطها السلطات الإسرائيلية أمراً من ضرب المستحيل.[13]
[8] مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، القدس الشرقية: الفلسطينيون المهددون بالإخلاء. تشرين ثاني 2016.
[9] نتنياهو يدعم لتوسعة كبيرة للقدس بضم المستوطنات القريبة (رابط خارجي)، Times of Israel، 27 تموز 2017.
[10] أنظر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، الفصل 3، الاستيطان في القدس الشرقية: مخاوف إنسانية أساسية، آذار 2011.
[11] "بيت أمانا: مستوطنة جديدة في الشيخ جراح" (رابط خارجي)، السلام الآن، 4 أيار 2016.
[12] انظر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، "حالــة حــي الشــيخ جــراح: متابعة للتطورات"، تشرين الأول/أكتوبر 2010
[13] انظر الاستعراض العام للاحتياجات الإنسانية في الأرض الفلسطينية المحتلة، الصادر في العام 2017.
[14] حارس الأملاك العام هو الجهة القانونية القيّمة على أية أملاك في القدس الشرقية، والتي كان حارس "أملاك العدو" الأردني يديرها، قبل الاحتلال الإسرائيلي وضم المناطق التي كانت توجد فيها في العام 1967.