يقول يوسف، البالغ من العمر 19 عامًا وهو من سكان غزة: «عندي الكثير من الأحلام، ولكنني بتّ مقتنعًا بأهمية البقاء في غزة بكرامة، دون أن أجتاز الحدود إلى إسرائيل مرة أخرى.» فقد كانت أفكاره مختلفة عندما كان في السابعة عشرة من عمره، ويقول إنه توصل إلى اعتقاده الراهن بعدما دفع ثمنًا باهظًا.
وتعيش أسرة يوسف في مخيم جباليا، وهو أكبر مخيمات اللاجئين وأكثرها اكتظاظًا في قطاع غزة. وتعاني هذه الأسرة من الفقر وتعتمد بالدرجة الأولى على المساعدات النقدية الحكومية وعلى المساعدات الغذائية التي تقدمها وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا). وعندما توقفت الحكومة الإسرائيلية عن إصدار التصاريح لسكان غزة للعمل في إسرائيل في العام 2006 بحجة المخاوف الأمنية، فقدَ والد يوسف عمله.[1] ومنذ ذلك الحين، لا يزال الوضع المالي للأسرة يشهد تدهورًا، مثلما هو حال العديد من الأسر في غزة.
وكان من المتوقع أن يصل معدل الفقر في غزة إلى 64 بالمائة في نهاية العام 2020،[2] كما تفاقم الوضع الاقتصادي والاجتماعي المتردي في الأصل إلى حد بعيد منذ الإغلاق الذي فرضته السلطات المحلية للمرة الثانية في شهر آب/أغسطس من أجل احتواء انتقال العدوى بفيروس كورونا، حيث بلغ معدل البطالة 43 بالمائة خلال الربع الرابع من العام 2020.[3]
وكان يوسف يحلم بأن يصبح ممرضًا، بيد أن رسوم الجامعة باهظة ويُشترط حصوله على علامات عالية في شهادة الثانوية العامة (التوجيهي) لكي يتسنى قبوله في الجامعة. ووفقًا لمجموعة التعليم، تتسم نوعية التعليم العام في غزة برداءتها، حيث يعمل نحو 65 بالمائة من المدارس التابعة لوكالة الأونروا والمدارس العامة بنظام الفترتين، وتسعى الأسر الفقيرة جاهدةً لشراء مستلزمات التعليم الأساسية ودفع تكاليف نقل أطفالها إلى المدارس. وفي العام المدرسي 2017-2018، بلغ معدل التسرب من المدارس العامة في غزة 1.94 بالمائة في مرحلة التعليم الأساسي (الصفوف من الأول حتى التاسع) و5.98 بالمائة في مرحلة التعليم الثانوي (الصفوف من العاشر حتى الثاني عشر).[4]
«في العام 2019، وخلال سنتي الأخيرة في المدرسة، قررتُ أن أجازف. فقد أقنعني صديقي بأننا إن تمكنّا من اجتياز السياج الحدودي [إلى إسرائيل]، فقد نحصل على عمل بأجر ونؤمّن ظروفًا أفضل لأنفسنا ولأسرنا. وجرّبنا ذلك لأنه لم يكن لدينا شيء نخسره. فلم يوقفنا خطر التعرض لإطلاق النار أو الاعتقال أو حتى القتل على يد الجنود الإسرائيليين، فقد كان ذلك أملنا الوحيد في حياة أفضل.»
وفي إحدى الليالي، نجح يوسف وصديقه في اجتياز السياج. وعندما بلغا مسافة قاربت 200 متر داخل إسرائيل، سمعا صوت إطلاق النار بكثافة وشاهدا جنودًا معهم كلاب وأضواء قوية. وأمرهما الجنود بخلع كل ملابسهما، ويتذكر يوسف أنه شعر بإذلال وذعر كبيرين. ويقول إنه عُصبت عيناه وتعرّض للإهانة والضرب المبرح عندما اقتاده الجنود إلى سجن شيكما في مدينة عسقلان الإسرائيلية.[5]
«وضعوني في العزل وحققوا معي مرات عدة، وضربوني وأهانوني مرات أخرى. وفي ذلك الوقت، لم أكن أعرف ما حصل مع صديقي. وبعد 20 يومًا، نقلوني أخيرًا إلى سجن آخر.»
ونقل يوسف إلى سجن عوفر في الضفة الغربية، الذي تديره السلطات الإسرائيلية كذلك. والتقى هناك مع أطفال آخرين من غزة، بمن فيهم صديقه الذي اجتاز السياج الحدودي معه. «في سجن عوفر، سمح مأمورو السجن لي بالاتصال بمحامٍ أخيرًا.»
وفي الفترة الممتدة بين العامين 2015 و2019، اعتقلت القوات الإسرائيلية ما لا يقل عن 259 شخصًا من سكان غزة، من بينهم 96 طفلًا، بينما كانوا يجتازون السياج الحدودي إلى إسرائيل. وأطلقت القوات الإسرائيلية النار باتجاه 24 شخصًا، من بينهم ثمانية أطفال، وقتلتهم، بينما أصيبَ 13 آخرين، منهم ستة أطفال، بجروح وهم يحاولون اجتياز السياج, وفقًا لتقرير صدر مؤخرًا عن مركز الميزان لحقوق الإنسان، وهو منظمة فلسطينية تتخذ من غزة مقرًا لها.
وقد أجرى مركز الميزان مقابلات مع 91 طفلًا من أمثال يوسف، ممن حاولوا اجتياز السياج الحدودي إلى إسرائيل بين العامين 2015 و2019. ووفقًا لهذه الدراسة، فقد شملت العوامل الرئيسة المحركة لهذه الظاهرة الفقر، الذي يزيد العنف الأسري من تفاقمه في بعض الأحيان، وتدني نوعية الحياة في مخيمات اللاجئين أو المناطق الريفية والتسرب من المدارس.
وأشار أكثر من نصف الأطفال الذين أُجريت المقابلات معهم إلى أنهم تعرضوا للعنف في أثناء اعتقالهم. وأفاد جميع هؤلاء الأطفال بأنهم خضعوا للتحقيق، وقال عدد منهم بأنهم خضعوا لطرق مختلفة من الاستجواب تحت الإكراه والترهيب، بما شملته من الحرمان من النوم والطعام والماء، ناهيك عن العنف والإهانات والإذلال. ولم يُسمح لثلث هؤلاء الأطفال بالالتقاء بمحامين طيلة فترة اعتقالهم، وحُرمت الغالبية الساحقة منهم من زيارة أسرهم ومُنع آخرون من إجراء الاتصالات الهاتفية.
وحاول يوسف أن يستغل وقته أحسن استغلال في السجن: «لم يُتِح لي الفقر ولا لأي فرد من أفراد أسرتي بالالتحاق بالجامعة. فأسرتي لا تملك القدرة على تأمين المال حتى لتأمين الحد الأدنى من الغذاء اللائق أو تحمّل تكلفة التعليم. ولهذا السبب، قررتُ أن أجتهد في الدراسة داخل السجن وحالفني النجاح في نهاية المطاف في الحصول على شهادتي في التوجيهي. وكنت أدرس وحدي مع كتبي، ولم يُبدِ الأطفال الأخرون اهتمامًا. كان الأمر بالغ الصعوبة بلا أي مساعدة، ولم يكن المكان جيدًا، ولكنني اجتزت الامتحان في السجن ونلت 63 بالمائة!»
وقد أبلغت اللجنة الدولية للصليب الأحمر أسرة يوسف بأنه كان في السجن ونسقت زيارة لوالدته. وتلقّت أسرته زيارة من إحدى منظمات حقوق الإنسان التي قدمت لها بعض الاستشارات القانونية. ونُقل يوسف، بعدما أتم الثامنة عشرة من عمره، إلى سجن نفحة جنوب إسرائيل، حيث يُسجن البالغون من أبناء غزة.
ووفقًا للتقرير الصادر عن مركز الميزان، فقد أُطلق سراح نصف الأطفال في غضون 48 ساعة من اعتقالهم، بينما أمضى آخرون خمسة أشهر في المتوسط في السجون أو المنشآت العسكرية الإسرائيلية. وحسبما ورد على لسان منظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية بتسيلم، كان 173 طفلًا فلسطينيًا ممن اعتُبروا من مرتكبي الجنايات محتجزين أو مسجونين في سجون ومنشآت تابعة لقوات الدفاع الإسرائيلية أو مصلحة السجون الإسرائيلية في شهر أيلول/سبتمبر 2020.
وحسبما جاء في التقرير، فعندما يُعاد الأطفال إلى غزة، يتعرض معظمهم للاعتقال والاستجواب من جديد على يد الأجهزة الأمنية التابعة لحركة حماس هذه المرة، من أجل التحقق مما إذا صاروا مخبرين لصالح إسرائيل. وقد سُجن الأطفال الـ91 الذين أُجريت المقابلات معهم في التقرير لفترات تراوحت من عدة أيام إلى أكثر من أسبوع لاستجوابهم، في حين أفاد ثلث هؤلاء بأنهم تعرضوا للإهانة أو الضرب. وأُطلق سراح جميع الأطفال في نهاية المطاف بعدما وقعوا على تعهد بعدم اجتياز السياج مرة أخرى.
«بعدما قضيتُ نحو عشرة شهور في سجون إسرائيلية مختلفة، أنهيت فترة محكوميتي وأُطلق سراحي. ولحسن الحظ، لم تستجوبني الأجهزة الأمنية الفلسطينية عندما عدتُ إلى غزة. وما زلت لا أصدق أنني عدت سالمًا إلى عائلتي. ولا أزال أشعر بالصدمة، وخاصة من الأيام العشرين الأولي من التعذيب والإذلال.»
ولا يستطيع يوسف أن يعثر على فرصة عمل، والجامعة جدّ مكلفة بحيث لا يمكنه أن يتحمل تكلفة الالتحاق بها. وهو لا ينفك يشعر بالصدمة وتحاول أسرته أن تقنعه بالتماس العلاج ولكنه يرفض ذلك. وفي غزة، ليس ثمة برنامج مخصص لمعالجة احتياجات الأسرى السابقين على وجه التحديد. ومع ذلك، يقدم مجتمع العمل الإنساني خدمات منسقة في مجال الصحة العقلية والدعم النفسي والاجتماعي، وخاصة خدمات إدارة الحالات والاستشارات الجماعية والدعم النفسي والاجتماعي الفردي والمساعدة القانونية للأطفال في نزاع مع القانون، بمن فيهم الأسرى السابقون.[6] ويوسف واحد من 476,000 شخص في غزة – ومن بينهم 234,000 طفل – ممن هم في حاجة إلى خدمات الصحة العقلية والدعم النفسي والاجتماعي، كنتيجة مباشرة أو غير مباشرة للوضع الإنساني المتدهور في قطاع غزة.[7]
وبالإشارة إلى وضع الأطفال في غزة، فقد أطلق جيمي ماكغولدريك، المنسق الإنساني السابق في الأرض الفلسطينية المحتلة، هذه المناشدة في العام 2018: «إننا ندعو إسرائيل، والسلطة الفلسطينية وسلطات حماس في غزة، إلى تقديم حقوق الأطفال على أي اعتبارات أخرى واتخاذ خطوات فورية للتخفيف من معاناتهم.» وتنص اتفاقية حقوق الطفل[8] تحديدًا على «ألا يُعرض أي طفل للتعذيب أو لغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة» و«أن يجري اعتقال الطفل أو احتجازه أو سجنه وفقًا للقانون ولا يجوز ممارسته إلا كملجأ أخير ولأقصر فترة زمنية مناسبة.»[9] ويُعدّ وضع حد لتدهور الحالة الإنسانية في غزة خطوة مهمة على صعيد ضمان حقوق الأطفال ومنحهم الأمل في المستقبل كيلا يشعروا بأنهم مجبَرين على الإقدام على محاولة مغادرة ديارهم.
[1] طرأ انخفاض تدريجي على عدد التصاريح الصادرة لعمال المياومة الفلسطينيين من غزة مع بداية الانتفاضة الثانية في العام 2000. وألغيَ ما تبقى من التصاريح في نهاية المطاف في العام 2006 بعدما فازت حركة حماس بالانتخابات التشريعية الفلسطينية.
[2] OCHA, Humanitarian Needs Overview oPt 2021.
[3] World Bank, Economic Monitoring Report to the Ad Hoc Liaison Committee (2021).
[4] المصدر: مجموعة التعليم، بيانات حول العام المدرسي 2019-2020. ولا تتوفر البيانات عن العام 2021 بسبب تعطيل الدوام في سياق جائحة كورونا.
[5] قائمة السجون ومراكز الاعتقال وأوصافها
[6] UNDP, UN Women and UNICEF, Promoting the Rule of Law in Palestine (Sawasya II) project.
[7] تقدّر مجموعة الحماية بأن نحو 198,000 طفل في غزة يحتاجون إلى الحماية والدعم النفسي والاجتماعي على نحو منظم بسبب خطورة حالات الصحة العقلية الحادة أو المتوسطة، في حين يحتاج نحو 36,000 طفل إلى إدارة حالاتهم على أساس كل حالة على حدة. وفضلًا عن ذلك، يحتاج أكثر من 242,000 شخص بالغ في غزة، بمن فيهم مقدمو الرعاية، إلى مختلف خدمات الصحة العقلية والدعم النفسي والاجتماعي. انظر: OCHA, Humanitarian Needs Overview oPt 2021.
[8] اتفاقية حقوق الطفل، اعتُمدت وعُرضت للتوقيع والتصديق والانضمام بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 44/25 المؤرخ في 20 تشرين الثاني/نوفمبر 1989، تاريخ بدء النفاذ: 2 أيلول/سبتمبر 1990.
[9] اتفاقية حقوق الطفل، المادتان 37(أ) و37(ب).