الأثر الإنساني للمستوطنات في الأحياء الفلسطينية في القدس الشرقية: عمليات الإخلاء والتهجير

على مدى السنوات القليلة الماضية، إستولت المنظمات الإستيطانية الإسرائيلية، وبدعم من السلطات الإسرائيلية، على ممتلكات تقع في الأحياء الفلسطينية بالقدس الشرقية، وأقامت عددًا من التجمعات الإستيطانية فيها. وفي معظم الحالات، رفع أصحاب الممتلكات الدعاوى التي إعترضوا فيها على الإستيلاء على ممتلكاتهم أمام المحاكم الإسرائيلية، غير أن النجاح لم يحالفهم فيها. وتُعد المستوطنات غير قانونية بموجب القانون الدولي. 

تجمع إستيطاني في حي سلوان، القدس الشرقية، تشرين الثاني/نوفمبر 2014  © - تصوير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية

وتتركز المستوطنات المقامة في المناطق الفلسطينية من القدس الشرقية فيما يُعرف بمنطقة ’ الحوض المقدس‘، والحيَّيْن الإسلامي والمسيحي في البلدة القديمة، والشيخ جراح، والطور (جبل الزيتون)، ووادي الجوز، وراس العامود وجبل المكبر. ووفقًا للإحصائيات الإسرائيلية، يقدَّر عدد الإسرائيليين الذين يسكنون في هذه المستوطنات بنحو 3,500 إسرائيلي في هذه الآونة.[1]

ويجري نقل ملكية المنازل الفلسطينية إلى المنظمات الإستيطانية بطرق شتى. ففي بعض الحالات، يقيم المستوطنون دعاوى قضائية أمام المحاكم لإخلاء الفلسطينيين من منازلهم، بدعوى أن الأراضي التي شُيدت عليها كانت تعود ملكيتها لأفراد يهود أو جمعيات يهودية في القدس قبل العام 1948.[2] وفي حالات أخرى، يجري تطبيق قانون حارس أملاك الغائبين لسنة 1950، حيث يسري هذا القانون، الذي سُنّ لغايات إضفاء طابع رسمي على الإستيلاء على أراضي الفلسطينيين وممتلكاتهم بعد أن طُردوا أو فروا منها خلال الحرب العربية-الإسرائيلية في العام 1948، على القدس الشرقية منذ العام 1967.[3] كما حالف النجاح المنظمات الإستيطانية في بعض الحالات في شراء أراضٍ وممتلكات مباشرة من أصحابها الفلسطينيين، بسبب الوضع الإقتصادي المتردي في العديد من الأحياء المستهدفة.

وفي أشد الحالات، أدّى إستيلاء المستوطنين على الممتلكات الفلسطينية في البلدة القديمة وسلوان والشيخ جراح إلى فقدان هذه الممتلكات وإخلاء سكانها الفلسطينيين منها على المدى الطويل. وتخلِّف عمليات الإخلاء آثارًا مادية وإجتماعية وإقتصادية ونفسية فادحة على الأسر الفلسطينية المتضررة. ففضلًا عن حرمان الأسرة من منزلها – أحد أصولها الأساسية ومصدر أمنها المادي والإقتصادي – غالبًا ما تؤدي عمليات الإخلاء إلى تعطيل سبل عيشها وزيادة فقرها وتراجع مستوى معيشتها.[4]

كما تتسبب الرسوم القانونية الباهظة التي تتكبدها الأسر في الدفاع عن دعاواها أمام المحاكم في إرهاق مواردها المالية الشحيحة في الأصل. ويُعدّ الأثر الذي يخلفه الإخلاء على الأطفال مدمّرًا بوجه خاص، بما يشمله ذلك من تعرّضهم لإضطرابات نفسية لاحقة للإصابة بالصدمة، وإصابتهم بالإكتئاب والتوتر وتراجع مستوى تحصيلهم الدراسي.

ولا يُعرف العدد الكلي لدعاوى الإخلاء منذ العام 1967. ويشير إستطلاع أجراه مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في العام 2016 إلى أن دعاوى إخلاء رُفعت ضد 180 أسرة فلسطينية في القدس الشرقية، غالبيتها من قبل منظمات إستيطانية. ونتيجة لذلك، يكون 818 فلسطينيًا، بمن فيهم 372 طفلًا، تحت خطر التهجير. ومنذ ذلك الحين، تعرّضت أربع أسر من تلك الأسر، والتي تضم 30 فردًا، للإخلاء من منازلها.

مازن قِرِّش: "ما تزال البلدة القديمة بيتي."

في شهر أيلول/سبتمبر 2016، أخلت الشرطة الإسرائيلية عائلة قرّش بالقوة من منزلها في البلدة القديمة بالقدس بعد معركة قانونية طويلة الأمد صدر الحكم فيها ضد العائلة في نهاية المطاف. وكانت العائلة تقطن في منزلها منذ حقبة الثلاثينات من القرن الماضي. وقد جرى تهجير أسرتين من ثمانية أفراد، بينهم طفلان. وبعد ذلك، جرى نقل ملكية هذا العقار إلى منظمة "عطيرت كوهانيم" الإستيطانية التي أفادت التقارير بأنها إشترته في أواخر العقد الثامن من القرن الماضي. ويشكل المنزل جزءًا من تجمع سكني أكبر يضم تسع شقق، ثمانٍ منها إحتلها المستوطنون الإسرائيليون في شهر تموز/يوليو 2010، مما تسبب في تهجير سبع أسر فلسطينية. وقد إنتقلت عائلة قرش، بعد إخلائها من منزلها، إلى بلدة العيسوية في القدس الشرقية.

عندما يسأل الناس ’ أين منزل مازن قرّش؟ ‘، فلا أحد يعلم. أنا لا أعرف أي أحد هنا في العيسوية وأشعر بأنني أجنبي فيها. لقد إنهارت حياتي الإجتماعية. فقد أُجبرنا على الرحيل من بيتنا في البلدة القديمة في شهر أيلول/سبتمبر 2016. وحاولنا أن نجد شقة هناك، حتى ولو كانت غرفة واحدة ومطبخ، ولكننا لم نتمكن من ذلك. وقد وجدنا هذه الشقة في العيسوية، حيث نستطيع أن نتحمل إيجارها كأسرة تتكون من ثمانية أفراد. وهي تقع في بناية جديدة، غير أنها أرخص بكثير من أماكن أخرى في المدينة، حيث يمكن أن تصل الإيجارات إلى حد 1,000 دولار في الشهر. ولا يوجد رخصة بناء لهذه الشقة، ولكن هذه هي القاعدة في القدس الشرقية. وقد هدمت بلدية القدس بناية مجاورة قبل نحو ثلاثة أشهر بسبب إفتقارها إلى رخصة بناء.

مازن قريش وحفيدته في منزله في البلدة القديمة  © - تصوير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية

إن الحياة غالية هنا، ونواجه صعوبة في تدبر أمورنا. ونحن الآن ندفع بدل الإيجار والخدمات العامة، ونحتاج إلى المواصلات العامة. في البلدة القديمة، كان كل شيء في متناول أيدينا، وكان الشبان يتواجدون في الطريق دائمًا، حيث كانوا يساعدونني في حمل مشترياتي إلى بيتي. وكنت أصل إلى المسجد الأقصى في غضون خمس دقائق لأداء الصلاة، أو إلى المحال التجارية أو العيادة بالقرب من باب الساهرة. أما الآن، فأحتاج إلى أكثر من ساعتين لكي أصل إلى البلدة القديمة وأعود منها، وعلي أن أصعد ثلاث طبقات من درج السلالم لكي أصل إلى شقتي. وعندما أذهب للصلاة في المسجد الأقصى أيام الجمعة، أغادر في الصباح ولا أعود إلا بعد الظهر. ويستغرقني الأمر ساعة ونصف على الأقل لكي أصل إلى العيادة الآن. فنحن ما زلنا نذهب إلى هناك لأن طبيب عائلتنا الذي يعالجنا منذ أكثر من 30 عامًا ما يزال هناك. كما ربطت رقم هاتفنا الأرضي في البلدة القديمة برقم هاتفي الخليوي. فأنا لا أريد أن أخسره أيضًا.

وقد عرض علينا المستوطنون أكثر من مليون شيكل لشراء منزلنا وإخلائنا منه، ولكننا رفضنا ذلك. فليس في وسعك أن تثمّن بيتك بأي قيمة. إن البيت أكثر من مجرد منزل، إنه مجتمعك الذي ترعرعت فيه وتشكلت فيه ذكرياتك، حلوها ومرها، ويوجد فيه الناس الذين يعرفونك ويحترمونك. وقد إستأجرت عائلتي بيتنا في البلدة القديمة في العقد الثالث من القرن الماضي، وأنا ولدت فيه. وبعد نحو 70 عامًا، إحتل المستوطنون الجزء الأكبر من بيتنا، وكانت حياتنا يطغى عليها التوتر والقلق والمضايقات على مدى سبعة أعوام. ولكنني كنت راضيًا لأنني كنت ما أزال أعيش في بيتنا. ولم أفكّر مطلقًا أنني سأرحل عن البيت الذي ولدت فيه في يوم من الأيام. فكل بلاطة في بيتنا عزيزة على قلبي. فوالدي توفي فيه عن عمر ناهز 75 عامًا. ولي ذكريات عمرها 58 عامًا، وما زلت أذكر يوم كنا نلعب في ساحته أنا وإخوتي حين كنا أطفالًا. 

كنت أعتقد أنني طالما لم أقبل المال من المستوطنين الإسرائيليين، فلن أُجبر على الرحيل عن بيتي على الإطلاق. ولكن عندما حضرت القوات الإسرائيلية لإخلائنا منه، بدا ذلك من ضرب الخيال. بدا الأمر كما لو أن حياتي إنهارت بكاملها، وأنني أشاهد هذا الكابوس بأم عيني وأنا مشلول تمامًا وبلا حراك. لم يغمض لنا جفن على مدى شهور بعد ذلك. 

وقد ذهبت إلى البلدة القديمة عشرات المرات منذ ذلك الحين. ولا يُسمح لي بالجلوس أمام بيتنا، أو ما كان بيتنا يومًا، بموجب أمر صادر عن الشرطة. ولذلك، أجلس مقابل المغسلة القريبة منه. وأحيّي الناس الذين يمرون بي، وهم يلقون التحية علي كذلك. ولهذه التجربة نكهة خاصة على نحو أكبر بكثير في شهر رمضان. في كل مرة أذهب فيها إلى البلدة القديمة، أشعر بأنني أتنفس من جديد. أشعر بالشمس، وأشعر أن روحي كاملة غير منقوصة.


[1] Jerusalem Institute for Israel Studies, Statistical Yearbook of Jerusalem, 2018 Edition, Chapter III, Table III/5.

[2] بموجب القانون الإسرائيلي، يجوز للإسرائيليين رفع الدعاوى للمطالبة بالأراضي والممتلكات التي يدعى أن يهودًا كانوا يملكونها في القدس الشرقية قبل إقامة دولة إسرائيل. وفي المقابل، يُحرم هذا القانون الفلسطينيين من الحق في إستعادة أراضيهم وممتلكاتهم فيما بات يعرف اليوم بإسرائيل.

[3] في العام 1967، أصدر النائب العام مئير شامغار قرارًا يقضي بمنع إنفاذ القانون على القدس الشرقية، على الرغم من أنه طبق عدة مرات في حقبة الثمانينات من القرن الماضي للإستيلاء على ممتلكات من أصحابها الفلسطينيين في سلوان والحي الإسلامي في البلدة القديمة.

[4] انظر، أيضًا: Norwegian Refugee Council, The Economic Impact of Displacement, April 2015.