عيادة تشغّلها منظمة الصحة العالمية في تجمّع الخان الأحمر-أبو الحلو البدوي في القدس © - تصوير إيريك غورلان
عيادة تشغّلها منظمة الصحة العالمية في تجمّع الخان الأحمر-أبو الحلو البدوي في القدس © - تصوير إيريك غورلان

المساعي التي تُبذل في سبيل نزع الصفة الشرعية عن العمل الإنساني، والقيود المفروضة على الوصول والعراقيل الإدارية تقوّض سير العمليات الإنسانية

لا تزال المحاولات التي تُبذل على صعيد نزع الصفة الشرعية عن الوكالات الإنسانية ومنظمات حقوق الإنسان العاملة في الأرض الفلسطينية المحتلة، ولا سيما المنظمات غير الحكومية، تشهد ازديادًا مطّردًا على مدى الأعوام القليلة الماضية. وينتج عن هذه المساعي أثرًا سلبيًا على قدرة هذه المنظمات على تقديم المساعدات ومناصرة حقوق الفلسطينيين. ويزداد هذا الوضع تفاقمًا بسبب القيود المفروضة منذ أمد بعيد على تنقُّل العاملين في المجال الإنساني وتنفيذ العمليات الإنسانية، وبسبب التشريعات التقييدية والهجمات التي تستهدف المدافعين عن حقوق الإنسان. وقد أسهم تقلُّص الحيّز المتاح أمام العمل الإنساني نتيجةً لهذه الضغوط في تخفيض المناشدة الإنسانية للأرض الفلسطينية المحتلة خلال العام 2019.

عيادة تشغّلها منظمة الصحة العالمية في تجمّع الخان الأحمر-أبو الحلو البدوي في القدس © - تصوير إيريك غورلان

وقد أطلقت شبكة من منظمات المجتمع المدني الإسرائيلية وبعض المنظمات المرتبطة بها في أماكن أخرى معظم المحاولات التي تستهدف نزع الصفة الشرعية عن العمل الإنساني، وبدعم لا يخفى من جانب الحكومة الإسرائيلية. وتزعم الحملات التي تُعنى بالتشهير بالوكالات الإنسانية وتشويه سمعتها أن هذه الوكالات تخالف التشريعات بشأن مكافحة الإرهاب والقانون الدولي، أو تنفّذ إجراءات سياسية في مواجهة إسرائيل.

وغالبية هذه المزاعم لا أساس لها من الصحة، أو تحرِّف عناصر جوهرية من الواقع أو القانون وتشوّهها. فالمنظمات الإنسانية العاملة في الأرض الفلسطينية المحتلة تلتزم التزامًا صارمًا بمبادئ الحياد والنزاهة والإستقلالية والإعتبارات الإنسانية، وتنفّذ المعايير الصارمة التي تمليها الأمم المتحدة والجهات المانحة، إلى جانب معاييرها الداخلية، لضمان الإمتثال لهذه المبادئ وللقوانين ذات الصلة كافة. وفضلًا عن ذلك، تفرض الحكومات المانحة مبادئ توجيهية تعكس الحساسيات السياسية التي تَصف  السياق القائم في الأرض الفلسطينية المحتلة.

وقد نتج عن الإتهامات التي توجَّه إلى المنظمات الإنسانية العاملة في الأرض الفلسطينية المحتلة مجموعة من الآثار السلبية. ومن جملة هذه الآثار ضرورة تخصيص الوقت والموارد اللازمة لتفنيد تلك المزاعم، وإقدام بعض الجهات المانحة على وقف تمويل بعض الأنشطة بغية تجنُّب المخاطر، والعقبات التي تضعها البنوك الإسرائيلية أمام تحويل الأموال والإجراءات التي تتّبعها في إغلاق الحسابات، ورفض المؤسسات الإسرائيلية استضافة الفعاليات التي تشارك فيها منظمات غير حكومية معينة واحتمال تقويض المعلومات التي تعمّمها هذه المنظمات، التي لحق الضرر بسمعتها.

ووفقًا لما صرّح به جيمي ماكغولدريك، المنسق الإنساني للأرض الفلسطينية المحتلة، في مناسبة إطلاق خطة الإستجابة الإنسانية للعام 2019: " إننا، بصفتنا جهات إنسانية فاعلة، لا نعارض أي تدبير من التدابير الأمنية، ولكن ينبغي لهذه التدابير أن تستند إلى أدلة تسوّغها. وفي الواقع، تُعنى إجراءات التمحيص والتدقيق بتحسين الأداء. ولكن ما نشهده، في هذه الحالة، يُقصد به منعنا من أداء عملنا [...] وعندما تتعرض منظمات ذات سمعة جيدة ولها سجلّ مشهود وحافل في تقديم المساعدات الإنسانية الضرورية بما يتوافق مع المبادئ الإنسانية الدولية وبما يتماشى مع أنظمة التدقيق التي تراعيها الجهات المانحة للهجوم، يجب على السلطات والمانحين أن يمدّوا يد العون لنا في درء هذا الهجوم عنّا من أجل ضمان حماية الحيّز المتاح لنا في تقديم هذه المساعدات."

آثار وخيمة على المنظمات غير الحكومية الدولية

بين شهريْ تشرين الأول/أكتوبر وتشرين الثاني/نوفمبر 2018، أجرت رابطة الوكالات الإنمائية الدولية، التي تمثّل غالبية المنظمات غير الحكومية الدولية والمنظمات غير الربحية العاملة في الأرض الفلسطينية المحتلة، مسحًا شمِل المنظمات الأعضاء فيها من أجل تقييم الآثار التي تخلِّفها المساعي التي تُبذل في سبيل نزع الصفة الشرعية عن العمل الإنساني. وقد شارك في هذا المسح ما يزيد بقليل على نصف المؤسسات الأعضاء في الرابطة (41 من أصل 80 مؤسسة).

وأشارت جميع المنظمات التي استُطلعت آراؤها إلى أنها تضرّرت بطريقة أو بأخرى من الحملة التي ترمي إلى نزع الصفة الشرعية عنها، حيث أفاد ما نسبته 23 بالمائة من هذه المنظمات بأن تلك الاتهامات أجبرتها على تغيير برامجها القائمة أو تعليقها أو إلغائها، بصورة جزئية أو كلية. وصرّح 22 بالمائة من تلك المنظمات بأنها واجهت تهديدات باتخاذ إجراءات قانونية أو إدارية ضدها، أو أن هذه الإجراءات نُفِّذت بحقها بالفعل، بينما أشار 55 بالمائة منها إلى أنها اضطُرت إلى الإجابة عن المزيد من الإستفسارات التي وجّهتها الجهات المانحة إليها حول برامجها. وعلى وجه العموم، أشار 43 بالمائة من المنظمات التي شملها المسح إلى أن الحملة المذكورة قوّضت التمويل الذي كانت تحصل عليه لتنفيذ أنواع معينة من الأنشطة.

نسبة المنظمات غير الحكومية المتضررة حسب نوع الأثر

وتشمل إستراتيجيات التكيف التي طُبِّقت لغايات مواجهة هذه التحديات إنفاذ إجراءات التوجيه والرقابة التي تتصف  بقدر أكبر من الصرامة من جانب المانحين، وتنفيذ المزيد من أعمال الفحص والتحري عن المنظمات الشريكة والأطراف المستفيدة، وزيادة وتيرة اللجوء إلى الإستشارات القانونية، وتنظيم دورات تدريبية إضافية تستهدف الموظفين، إلى جانب تنفيذ المزيد من إجراءات التدقيق الداخلي والخارجي (أنظر الرسم البياني أدناه). وأفاد نصف المنظمات التي استطلعت رابطة الوكالات الإنمائية الدولية آراءها بأنها عيّنت موظفين متخصصين في السياسات والمناصرة، في حين عيّن 38 بالمائة منها موظفين مختصين لمتابعة الإمتثال للمتطلبات الإضافية التي فرضتها الجهات المانحة أو لإدارة المخاطر. وقد تسبّبت هذه الإستراتيجيات في تحويل موارد كان يمكن رصدها لتقديم المساعدات بخلاف ذلك.

تدابير التكيّف حسب عدد المنظمات غير الحكومية الدولية المتضررة

القيود المفروضة على الوصول تقوِّض الحيّز المتاح لتنفيذ العمليات

كما أدّت هذه الحملة إلى تقليص حيّز عملياتي يخضع للتقييد في الأصل من خلال فرض مجموعة من القيود على الوصول. وهذه تشمل القيود التي تفرضها السلطات الإسرائيلية منذ أمد بعيد، بحجة المخاوف الأمنية، على وصول الموظفين المحليين لدى الوكالات الإنسانية داخل الأرض الفلسطينية المحتلة، ولا سيما على دخولهم إلى قطاع غزة والقدس الشرقية وخروجهم منهما، إلى جانب عمليات الإستجواب الطويلة التي يخضع لها هؤلاء الموظفون والحوادث التي تشمل سحب التصاريح منهم.

وإضافة إلى ذلك، يواجه العاملون في المجال الإنساني لدى الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية العقبات التي تحول دون وصولهم إلى غزة وخروجهم منها، بما فيها المناطق القريبة من السياج الحدودي، بفعل المطالب التي تشترطها سلطات حماس. وهذه تشمل تفتيش المركبات التابعة للأمم المتحدة، وإصدار التصاريح وإجراء المقابلات الأمنية مع الموظفين الذين يدخلون إلى غزة ويخرجون منها، ومنع تنفيذ الأنشطة الإنسانية في مناطق معينة، وطلب المعلومات التي تخصّ الموظفين والمستفيدين.

كما تأثرت التدخلات الإنسانية في غزة بمجموعة من القيود المفروضة على الواردات، ولا سيما البضائع التي تعدّها إسرائيل أصنافًا ’ذات استخدام مزدوج‘. ولا يزال إدخال بعض المواد، وخاصة تلك التي تحتاج إليها مشاريع المياه والصرف الصحي، محفوفًا بالمصاعب على الرغم من الجهود التي تبذلها إسرائيل في سبيل تسهيل إدخالها من خلال الآلية المؤقتة لإعادة إعمار غزة، التي طُرحت في العام 2014.[1]

وفي الضفة الغربية، تتعرض المساعدات التي تقدَّم للتجمعات السكانية الضعيفة في المنطقة (ج) والقدس الشرقية للتدمير أو المصادرة في حالات كثيرة بحجة الإفتقار إلى رخص البناء.[2] وعلاوةً على ذلك، تتسبّب القيود المفروضة على الوصول إلى المناطق التي تحتاج إلى تدخلات إنسانية، إلى جانب التأخير على الحواجز، في تعطيل وصول العاملين في مجال الإغاثة الإنسانية وتسليم المواد إلى المناطق التي تحتاج إليها.

مدرسة قُدِّمت كمساعدات إنسانية هُدِمت بحجة الافتقار إلى رخصة بناء في تجمّع أبو نوار البدوي في القدس، 4 شباط/فبراير 2018 © - تصوير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية

التشريعات الجديدة والهجمات التي تستهدف المدافعين عن حقوق الإنسان 

تشير منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية إلى أن موظفيها تعرّضوا للتهديد والترويع،[3] وللإحتجاز والإستدعاء بصورة متكررة، وإلى تعرُّض مقراتها للإقتحام، ومصادرة ممتلكاتها/معداتها، ورفض منح التأشيرات للدخول إلى الضفة الغربية.[4]

وإضافة إلى ما ذكر سابقاً، تواجه منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية والدولية العاملة في الأرض الفلسطينية المحتلة عدة قوانين وقرارات إدارية إسرائيلية تستهدف الحق في حرية التعبير عن الرأي، والحق في الحصول على التمويل وأحقيتها في الحصول على الأموال العامة.[5] وقد وسّع تعديل أُجرِي على القانون بشأن الدخول إلى إسرائيل من صلاحيات التقدير الممنوحة لوزير الداخلية الإسرائيلي، بحيث باتت تشمل رفض دخول أي شخص غير مواطن/مقيم إلى إسرائيل والضفة الغربية على خلفية سياسية.[6]

كما تضررت المنظمات الأهلية الفلسطينية بفعل القرار بقانون بشأن الجرائم الإلكترونية، الذي أصدرته السلطة الفلسطينية مؤخرًا. فوفقًا لبعض هذه المنظمات، ينصّ هذا القرار بقانون على تقييد حرية التعبير عن الرأي، وهو يوظَّف لاعتقال المدافعين والنشطاء الذين يعارضون الإنتهاكات التي توقِعها السلطة الفلسطينية على حقوق الإنسان على أساس تعسفي.[7]

ووفقًا لما أشار إليه مفوّض الأمم المتّحدة السامي لحقوق الإنسان مؤخرًا، "فالتشريعات المعتَمَدة والمقترحة تسمّي المنظّمات المعنيّة بحقوق الإنسان حصرًا وتفرض عليها المزيد من القيود. كما تفرض المزيد من القيود الإداريّة على أعمالها. وتقوّض مصادر التمويل من خلال إطلاق حملات تهدف إلى نزع شرعيّة المنظّمات العاملة من أجل تحصيل حقوق الفلسطينيّين. ويتمّ توقيف المدافعين عن حقوق الإنسان، وتهديدهم، كما تُستَهدف مجموعات، من ضمنها منظّمات إسرائيليّة ومنظّمات يهوديّة أجنبيّة، لدفاعها عن حقوق الإنسان للفلسطينيّين."


[1] تمثّل آلية إعادة إعمار غزة اتفاقية أُبرمت بين إسرائيل وفلسطين والأمم المتحدة لتيسير إدخال مواد البناء إلى قطاع غزة، وهي تُعنى في المقام الأول بتعزيز عمليات إعادة الإعمار وترميم الأضرار التي وقعت خلال النزاع. ومنذ ذلك الحين، تكفلت هذه الآلية بتسهيل إدخال ما يزيد على ثلاثة ملايين طن من مواد البناء إلى غزة، حيث جرى إنجاز نحو 600 مشروع واسع النطاق، وتمكّن ما يقرب من 140,000 مستفيد من الحصول على هذه المواد من أجل ترميم منازلهم أو إعادة إعمارها أو تشييد منازل جديدة.

[2] انظر، مثلًا: OCHA, West Bank demolitions and displacement, November 2018.

[3] انظر: 
“UN rights experts denounce Israel’s growing constraints on human rights defenders”, 3 March 2017. https://www.ohchr.org/EN/NewsEvents/Pages/DisplayNews.aspx?NewsID=21279&LangID=E; Palestinian Non-Governmental Organizations Network, “Attacks on Palestinian civil society organizations in occupied East Jerusalem: A Matter of Illegal Annexation and of Repression of the Right to Self-determination”, June 2018.

[4] وفقًا لاستبيان أجرته شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية في العام 2018، وشاركت فيه 25 منظمة أهلية فلسطينية تعمل في القدس الشرقية، أشارت 20 بالمائة من هذه المنظمات إلى خضوع موظفيها لأوامر تحظر عليهم السفر لغايات العمل في الخارج، وأفادت 12 بالمائة منها بأن موظفيها خضعوا لحظر مؤقت أو لأوامر قضت بأبعادهم عن القدس. وواجهت 48 بالمائة من المؤسسات صعوبة في تعيين الموظفين الأجانب أو الإبقاء عليهم على رأس عملهم لديها بسبب رفض إسرائيل منح التأشيرات للمناصرين من الخارج، واضطُرت 24 بالمائة من تلك المنظمات إلى إلغاء أنشطة كانت تزمع تنظيمها مع زوار من الخارج.

[5] ومن جملة هذه القوانين قانون النكبة (2011)، وقانون المقاطعة (2011)، والتعديل الذي ورد على قانون التعليم العام (2018)، ومشروع قانون الولاء في الثقافة. وتشمل القرارات الإدارية إلغاء عقود الإيجار أو تعليق تمويل المؤسسات التي تنفذ فعاليات أو تقدّم عروضًا لا توافق عليها السلطات أو تضع خططًا لتنظيمها أو استضافتها.

[6] ينص التعديل رقم 28 لقانون الدخول إلى إسرائيل على أن لا يصدِر وزير الداخلية تأشيرة دخول إسرائيلية لأي شخص ليس مواطنًا أو مقيمًا في البلاد وسبق له أن أطلق دعوة عامة لمقاطعة إسرائيل أو تعهّد بالمشاركة في هذه المقاطعة، بما يشمل مقاطعة المستوطنات.

[7] Position Paper on the Ongoing Campaign to Silence, Delegitimize, and De-fund Palestinian Civil Society Organizations and Human Rights Defenders, published by PHROC and PNGO, March 2018.