ساهمت منظمة الصحة العالمية في كتابة هذه المقالة
بات قطاع غزة، والذي يعاني في الأصل من أعباء تفوق طاقته، يكافح في سبيل التعامل مع تدفق أعداد هائلة من الضحايا، في أعقاب المظاهرات التي تنظَّم في سياق ’مسيرة العودة الكبرى‘ منذ يوم 30 آذار/مارس. وقد تفاقمت هذه الأعباء بسبب النقص طويل الأمد في الأدوية والقدرات المحدودة المتاحة للمنشآت الطبية، والتي يسببها العجز الحاد في إمدادات الكهرباء وأزمة الرواتب المستمرة التي يعاني منها الموظفون الحكوميون، من جملة أسباب أخرى.
وقد إستجابت المنظمات الشريكة في مجموعة الصحة للإحتياجات الصحية المتزايدة التي نجمت عن الإصابات التي وقعت خلال المظاهرات. ففي كل يوم من أيام الجمعة منذ 30 آذار/مارس، تقيم وزارة الصحة وجمعية الهلال الأحمر الفلسطيني عشر خيام تضم نقاطًا طبية لإسعاف المصابين بجوار مواقع الخيام الخمس، من أجل تقديم الإسعافات الأولية الفورية للجرحى قبل تحويلهم إلى المستشفيات القريبة. وفضلًا عن ذلك، فما تزال 260 سيارة إسعاف و650 من المسعفين[1] على أهبة الإستعداد، كما نُشرت فرق إضافية من فرق الإسعاف والعمليات الجراحية، إلى جانب ما لا يقل عن 20 موظفًا دوليًا من العاملين في المجال الصحي منذ بداية المظاهرات، وجرى تقديم الأدوية الأساسية والمعدات الطبية التي تستدعيها الحاجة الماسّة.
ويعاني عدد كبير من المصابين من أضرار جسيمة في العظام وأنسجة العضلات بسبب إصاباتهم بالذخيرة الحية، والتي إستلزمت إجراء عمليات جراحية بالغة التعقيد. وتشير منظمة أطباء بلا حدود إلى أنه "عدا عن الرعاية التمريضية المنتظمة، فإن المرضى غالبًا ما يحتاجون إلى عمليات جراحية إضافية، وبرنامجًا طويل الأمد للعلاج الطبيعي والتأهيل. وسوف يعاني العديد من المرضى من حالات عجز وظيفي بقية حياتهم. وقد يضَّطر بعض المرضى مع ذلك إلى بتر أعضائهم إذا لم يحصلوا على الرعاية الوافية في قطاع غزة، أو إذا لم يتمكنوا من الحصول على التصاريح الضرورية التي تيسر لهم العلاج خارج القطاع.[2] ووفقًا للبيانات الواردة من وزارة الصحة الفلسطينية وجمعية السلامة الخيرية لرعاية الجرحى وذوي الإعاقة في غزة، فقد كان هناك 34 حالة بتر، بين يوميْ 30 آذار/مارس و23 أيار/مايو، منها 27 حالة شملت الأطراف السفلية وست بترت فيها الأطراف العلوية.[3]
وقد أُستُنفدت المستلزمات الطبية إلى حدّ كبير بسبب عدد الإصابات وفداحتها، وبات الوصول الى الخدمات الطبية للمرضى غير المصابين في الأحداث محط جدل . فعلى سبيل المثال، بلغ معدل إشغال أقسام الجراحة في المستشفى الأوروبي في غزة نحو ضعفيْ ونصف عدد المرضى الذين كان المستشفى يملك القدرة على إستيعابهم في الأحوال العادية لإجراء العمليات الجراحية حتى يوم 16 أيار/مايو.
ويتكرر هذا الوضع في جميع أنحاء قطاع غزة، حيث جرى تحويل الأقسام غير الجراحية إلى أقسام لإجراء العمليات الجراحية من أجل التعامل مع التدفق الهائل لأعداد الجرحى الذين أصيبوا بجروح خلال هذه الأحداث. وفي المستشفيات التابعة لوزارة الصحة، جرى إلغاء جميع المواعيد التي كانت مقررة في العيادات الخارجية (أكثر من 2,000 مريض في اليوم)، فضلًا عن جميع العمليات الجراحية الإختيارية (لما يزيد على 100 مريض في اليوم). فمثلًا، يقدر متوسط وقت الإنتظار لجراحات الأنف والأذن والحنجرة في مستشفى الشفاء، وهو أكبر مستشفيات قطاع غزة، الآن بما يزيد على سنة كاملة.
وعلاوةً على ذلك، ووفقًا لمستودع أدوية غزة المركزي، أُستُنفد ما نسبته 40 في المائة من الأدوية الأساسية بصورة تامة بحلول نهاية شهر نيسان/أبريل، ولا يكفي المخزون من 10 في المائة من الأدوية و29 في المائة من المواد الطبية المستهلكة إلاّ لفترة تقل عن شهر واحد.[4]
ومنذ بداية الأحداث الحالية، وحتى يوم 27 أيار/مايو، دخلت 71 شاحنة محملة بالمستلزمات الطبية إلى قطاع غزة، بما فيها ثلاث تبرع بها الهلال الأحمر المصري، من معبر رفح الخاضع للسيطرة المصرية، و68 شاحنة من معبر كرم أبو سالم، الذي يخضع للسيطرة الإسرائيلية، حيث قدمتها اللجنة الدولية للصليب الأحمر، ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف)، ووزارة الصحة ووكالة الأونروا والقطاع الخاص. وأيضا، ساهمت إسرائيل بشاحنتين محملتين بالأدوية والمستلزمات الطبية، ولكن سلطات حماس أعادتهما.
التمويل
مع بداية المظاهرات، أطلقت مجموعة الصحة مناشدة لتقديم 4.5 مليون دولار لتغطية الإحتياجات الفورية من الأدوية والمواد الطبية المستهلكة. وقد تم تأمين 1.8 مليون دولار من هذا المبلغ من صندوق التبرعات الإنساني في الأرض الفلسطينية المحتلة و1.26 مليون دولار منه من صندوق الأمم المتحدة المركزي للإغاثة في حالات الطوارئ، وما تزال هناك فجوة بقيمة 1.44 مليون دولار. ولاحقًا، وبعد أن إستمرت المظاهرات وتجاوزت الفترة التي كانت متوقعة لها في بادئ الأمر، وما إقترن بها من حجم الإصابات وجسامتها، أشارت مجموعة الصحة إلى حاجتها العاجلة إلى مبلغ إضافي يصل إلى 19.2 مليون دولار من أجل تغطية إحتياجات وزارة الصحة والمنظمات غير الحكومية في إدارة الإسعاف وتقديم الرعاية الصحية الأساسية حتى نهاية شهر أيلول/سبتمبر 2018. وحتى نهاية شهر أيار/مايو، قدّم المانحون أو تعهدوا بتقديم 6.3 مليون دولار، مما يترك فجوة تصل إلى 12.9 مليون دولار.
بين يوميْ 30 آذار/مارس و31 أيار/مايو، قتلت القوات الإسرائيلية أحد العاملين في مجال الصحةة (بالذخيرة الحية التي أصابته في الجزء العلوي من جسده)، وأصابت 245 آخرين بجروح، وألحقت الأضرار بـ40 سيارة إسعاف. ومن جملة العاملين في مجال الصحة المصابين، أصيبَ 16 منهم بجروح بالذخيرة الحية. وفي يوم واحد، 14 أيار/مايو، أصيبَ 15 عاملًا صحيًا يعمل مع الفرق الطبية الميدانية التابعة للدفاع المدني الفلسطيني وجمعية الهلال الأحمر الفلسطيني بالذخيرة الحية أو بشظاياها. وعادةً ما يرتدي العاملون الصحيون الذين ينتشرون على مقربة من السياج الحدودي في غزة سترات تميزهم على أنهم عاملون في الصحة.
وعقب مقتل عامل الصحة، كررت منظمة الصحة العالمية دعواتها بشأن حماية العاملين في مجال الصحة والمنشآت الصحية، وصرّحت بأنه "في أعقاب الهجوم المباشر على النظام الصحي، فقد يؤدي الأثر المتراكم للهجمات إلى تقليص مدى توفر الرعاية الصحية للسكان، بالإضافة إلى إلحاق الضرر بالصحة على المدى الطويل، بما في ذلك الصحة العقلية للعاملين الصحيين."[5]
وفي بيان صدر في يوم 13 أيار/مايو، قال المنسق الإنساني، السيد جيمي ماكغولدريك، "لا يُعقل أن يفتقر مقدمو الإسعافات الأولية إلى معدات الحماية، وأن عليهم أن يخاطروا بحياتهم من أجل تقديم الإسعاف الأولي للجرحى. ويجب حماية أفراد الطواقم الطبية في جميع الأوقات وإحترام الحق في الصحة."
آخر التطورات: في يوم 1 حزيران/يونيو، وخلال المظاهرات التي شهدتها غزة بمحاذاة السياج الحدودي، قتلت القوات الإسرائيلية بالذخيرة الحية فتاة فلسطينية، تبلغ 21 عامًا من عمرها وتعمل متطوعة لدى جمعية الإغاثة الطبية الفلسطينية، بينما كانت تؤدي واجبها في تقديم الإسعافات الأولية.
يواجه المرضى الذين يتم تحويلهم للعلاج الطبي خارج قطاع غزة، ولا سيما أولئك الذين أصيبوا في المظاهرات الأخيرة، عقبات رئيسية تحول دون وصولهم إليه. فللوصول إلى المستشفيات في الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، أو إسرائيل أو الأردن، يجب على المرضى أن يغادروا غزة عبر معبر إيرز مع إسرائيل، وهو ما يفرض عليهم الحصول على تصاريح الخروج من السلطات الإسرائيلية. وحتى يوم 20 أيار/مايو، قدّم 40 مريضًا أصيبَ بجروح في المظاهرات طلبات للحصول على هذه التصاريح. وقد وافقت السلطات الإسرائيلية على ثلث الطلبات التي التي تم تقديمها (13 مريضًا)، بينما رفضت ما يزيد على نصفها (21 مريضًا)، وما تزال بقية الطلبات قيد الدراسة، وذلك بالمقارنة مع معدل الموافقة الذي سجّل 60 في المائة خلال النصف الأول من العام 2018. وقد توفي أحد المرضى الذين مُنعوا من الخروج من غزة لاحقًا متأثرًا بجروحه في المستشفى الأوروبي في غزة.
كما تُفرض قيود مشددة على الوصول إلى المستشفيات في مصر بسبب فتح معبر رفح لفترات محدودة ومتقطعة على مدى الأعوام الثلاثة الماضية. ومع ذلك، فقد أعلنت السلطات المصرية عن فتح المعبر بصورة متواصلة طيلة شهر رمضان، الذي بدأ في يوم 17 أيار/مايو، وهذه هي أطول فترة يُفتح فيها المعبر منذ العام 2014. ومن يوم 30 آذار/مارس حتى يوم 26 أيار/مايو، خرج تسعة فلسطينيين أصيبوا بجروح خلال المظاهرات من غزة إلى مصر عبر معبر رفح، بينما تم إعادة 10 مرضى ممن أُصيبوا بجروح خلال المظاهرات من هذا المعبر. ونسّق الأردن إخلاء 30 مريضًا مصابًا آخر ونقلهم مباشرةً عبر إسرائيل إلى أراضيه، حتى يوم 23 أيار/مايو: حيث أُخلي سبعة مصابين في يوم 20 أيار/مايو والآخرون في يوم 23 أيار/مايو.
كان المسعف يوسف أبو معمر، الذي يبلغ 33 عامًا من عمره وأبٌ لطفلين، يعمل مع جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني منذ أن كان عمره 23 عامًا. وفي يوم 5 أيار/مايو، أصابت القوات الإسرائيلية أبو معمر بجروح، وهو يرتدي الزي الرسمي لجمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، بينما كان يحاول تقديم المساعدة لشخص مصاب. ومن غير الواضح الآن إذا ما كان أبو معمر سيتعافى بصورة كاملة، وكيف له أن يعيل أسرته في الوقت الحالي.
وقد أُوكلت إلى أبو معمر مهمة الإستجابة للإحتياجات الطبية في المنطقة الوسطى القريبة من السياج الحدودي مع إسرائيل. وعند ظهيرة يوم 5 أيار/مايو، تلقى أبو معمر نداءً من غرفة عمليات الهلال الأحمر، حيث طُلب إليه أن يقدم الإسعافات الأولية لإصابة أُبلغ عن وقوعها شرق دير البلح.
"ذهبتُ مع زميلي إلى الموقع الذي يبعد 300 متر عن السياج الحدودي. لم يكن هناك أحد غيرنا والرجل الذي كان مصابًا في قدمه بالذخيرة الحية. ولما قدّمنا الإسعافات الأولية له، رفعناه على الحمالة. وبينما كنا نرفع الحمالة ونهمّ بالمغادرة، أصابني قناص إسرائيلي في ركبتي اليمنى.
وإستمر إطلاق النار باتجاهنا بينما كنت أزحف باتجاه سيارة الإسعاف. كل ما كنت أفكر فيه ما ستؤول إليه حياة طفليَّ لو متّ. وعندما صرنا خلف سيارة الإسعاف، قدّم لي زميلي الإسعافات الأولية، ونادى لتقديم الدعم.
تمزق عصب ركبتي بصورة جسيمة. لم تخرج الرصاصة وما تزال الشظايا موجودة في رجلي. ولا أستطيع ثني رجلي أو المشي دون عكازات.
في الحقيقة، لا أعرف كيف حصل كل ذلك. كان الوقت منتصف اليوم، وشعار الهلال الأحمر واضح على سيارة الإسعاف، وأنا وزميلي نرتدي الزي الرسمي الواضح والبادي للعيان. كان من الواضح أننا مسعفون، ومع ذلك، فهذا لم يشفع لنا وينقذنا من الإستهداف."
يُعدّ إستنشاق الغاز المسيل للدموع، والذي يستلزم الحصول على علاج طبي، أكثر أنواع الإصابات الشائعة في الإشتباكات التي تدور بين الفلسطينيين والقوات الإسرائيلية على مدى السنوات القليلة الماضية. فمنذ بداية المظاهرات العامة التي يشهدها قطاع غزة وحتى يوم 19 أيار/مايو، تلقى ما مجموعه 5,572 شخصًا العلاج من إستنشاق الغاز المسيل للدموع، من بينهم 1,300 أُدخلوا إلى المستشفيات. وعلى الرغم من أن هذا الغاز هو أقل الأسلحة المميتة من بين جميع الوسائل التي تستخدمها القوات الإسرائيلية في السيطرة على الحشود، فإن التعرض له لفترات طويلة ومتكررة قد يفضي إلى مشاكل صحية ونفسية وإجتماعية خطيرة.
وقد كلّفت وكالة الأونروا، التي أصبحت قلقة إزاء الكميات الكبيرة من الغاز المسيل للدموع والتي تطلقها القوات الإسرائيلية بصورة متكررة في عدة مخيمات لللاجئين في الضفة الغربية، خبراء طبيين من جامعة كاليفورنيا، بيركلي، بإجراء تقييم أولي للآثار الصحية التي يخلفها التعرض للغاز المسيل للدموع في مخيميْ عايدة والدهيشة للاجئين في بيت لحم. وجاء التقرير الذي صدر في نهاية هذه المهمة بعنوان “لا ملاذاً آمنًا"، ونُشر في شهر كانون الأول 2017.
وفي إستطلاع شمل الأسر القاطنة في مخيم عايدة، أشار 100 في المائة من اللاجئين إلى أنهم تعرضوا لإستنشاق الغاز المسيل للدموع خلال العام المنصرم، حيث تعرّض له 84 في المائة وهم في منازلهم في المخيم، كما تعرّض 55 في المائة لإستنشاقه من ثلاث إلى 10 مرات خلال الشهر الذي سبق إجراء الإستطلاع ، وذلك داخل المباني (المنازل أو المدارس أو أماكن العمل) وخارجها. وعلى وجه الإجمال، أشار سكان المخيم إلى عجزهم عن الحيلولة دون تعرضهم لإستنشاق الغاز المسيل للدموع و/أو التقليل من تعرضهم له أو التخفيف من آثاره على صحتهم. فبالنسبة لهم، ليس هناك من ملاذ آمن في مخيمهم.
كما أشار المستطلعة آراؤهم إلى الآثار الصحية الحادة والخطيرة المرتبطة بالتعرض لإستنشاق الغاز المسيل للدموع: فأكثر من 75 بالمائة ممن شملهم الإستطلاع يعانون من أعراض تدوم لفترة تزيد على 24 ساعة، بما فيها ما يشكونه من مشاكل تصيب العيون والجهاز التنفسي وتهيُّج البشرة والآلام الناتجة عنه. وعانى ما يربو على 20 فيالمائة من المستطلعة آراؤهم من أعراض دائمة، بما فيها الصداع وتهيج العيون والتعرق وصعوبة التنفس.
كما يرتبط التعرض لإستنشاق الغاز المسيل للدموع بصورة متكررة ومتواصلة بإرتفاع مستويات الضغط النفسي في المخيمات. فقد تسببت وتيرة الإقتحامات العشوائية التي لا يمكن توقعها في خلق حالة متواصلة من فرط التيقظ والخوف والقلق. ومن شأن هذا "العجز المكتسب" أن يفضي إلى تطور مشاكل صحية مزمنة وإعتلال عام في الصحة.
[1] منظمات لديها سيارات إسعاف/توظف مسعفين هي جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، ووزارة الصحة، والدفاع المدني، والخدمات الطبية العسكرية، وجمعية الإغاثة الطبية الفلسطينية وإتحاد لجان العمل الصحي.
[2] منظمة أطباء بلا حدود، 19 نيسان/أبريل 2018.
[3] وزارة الصحة، "إحصائيات تفصيلية حول الضحايا"، بيان صحفي، 20 أيار/مايو 2018؛ وقدمت جمعية السلامة الخيرية البيانات لمنظمة الصحة العالمية في يوم 23 أيار/مايو 2018.
[4] يتولى مستودع أدوية غزة المركزي المسؤولية عن توفير المستلزمات لجميع المستشفيات التابعة لوزارة الصحة، التي توفر نحو ثلثي القدرة الإستيعابية للمستشفيات في قطاع غزة.
[5] منظمة الصحة العالمية، بيان صحفي، 14 أيار/مايو 2018.